في زخم المرحلة الحرجة التي تمر بها مجتمعاتنا العربية، ومن بين أزماتها المتعددة والمتشابكة، نجابه أزمة التصنيفات الفكرية وتحديد المفاهيم والمصطلحات. ومن أهم ما نواجهه في هذا الإطار هو اللبس في مضامين ومعاني المصطلحات والتركيز على رمزية المصطلح دون محتواه، على شكل اللفظ دون مضمونه.. إضافة لوضع بعض المصطلحات في حالة ساكنة وتثبيتها على معنى محدد سلفا وغير دقيق أو مخالف للواقع. ومن ذلك نواجه لغطا واختلاطا في تحديد مفهوم اللبرالية، باعتبارها من أكثر المصطلحات السياسية رواجاً في مرحلتنا هذه.
اللبرالية فكرة غربية الولادة والمنشأ، ولكنها حالياً فكرة عالمية تستند عليها أغلب الدول المتقدمة. المبدأ الأساسي في اللبرالية - بغض النظر عن تطبيقاته السياسية - هو حماية الفرد وصيانة حريته واستقلاله الفردي والدفاع عن حقوقه وعن كرامته. فاللبرالي بتعميم فضفاض هو الفرد الحر المستقل. ولا شك أن مثل هذا التوضيح لا يبين شيئاً، فأغلب البشر يرون في أنفسهم أحرارا مستقلين، ولكن يتفاوتون في تقدير مدى وتحديد درجة هذه الحرية والاستقلال.
تاريخياً، اللبرالية ظاهرة حديثة نسبيا، رغم أن مبادئها الأساسية وهي الحريات العامة والخاصة قديمة قدم الفكر البشري نفسه، نادت بها الأديان والمدارس الفكرية. ولعل أول ما يمكن تسجيله فلسفياً في هذا الإطار هو أطروحات ديموقراطيي أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. بركليس الذي دعا إلى مساواة جميع المواطنين أمام القانون. وبروثاغوراس الذي جعل الفرد مقياسا لكل شيء، ومثله ديموقريطس الذي اعتبر الإنسان هو صانع القوانين والمؤسسات. وأخيراً سقراط داعية الحرية وقدرة العقل وحقه في نقد جميع المعتقدات والأفكار، الذي أعدم بعد أن أدين من المحكمة بتهمة عدم التقوى وبإفساد الناشئة وممارسة البدع.
لغوياً، الترجمة العربية المباشرة لكلمة اللبرالية هي الحرية، ويمكن القول أنها التحرر، وفي الموسوعات قد تحدد بأنها الحرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهي لدى بعض الموسوعات الاشتراكية مذهب رأسمالي غربي؛ ولدى مصادر إسلامية مذهب تحرري غربي. وهي فلسفياً لدى أغلب الموسوعات الانعتاق من كل نزوع وكل طبيعة.. أو النزوع إلى الحرية المطلقة. إذن هذه الحرية متنوعة: سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سلوكية، نفسية.. مادية وميتافيزيقية (غيبية).. وقد يرى البعض خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن في ذلك دعوة للتمرد ورفض السلطة الخارجية وقيودها، مما يعني أنها وصفة للثورة أو للفوضى والتسيب.
واللبرالية فكرة متفاوتة اجتماعياً عنها سياسياً وعنها اقتصادياً.. الاشتراكيون قد يظهرون لبرالية اجتماعية ولكنهم اقتصادياً مع الاقتصاد الموجه أو العام وضد اللبرالية الاقتصادية. . الإسلاميون قد يبدون لبراليين في المجال الاقتصادي لكنهم محافظون في المجال الاجتماعي وضد اللبرالية الاجتماعية.. الرأسمالي المحافظ يملك قناعات لبرالية اقتصادياً ولكنه محافظ سياسياً.. الخ، أضف إلى ذلك أن مفهوم اللبرالية مختلف من مجتمع لآخر، فاللبرالي في أمريكا قد يبدو محافظا في بريطانيا أو السويد مثلا؛ والمحافظ في أمريكا قد يظهر كلبرالي في مصر... ذلك يجعل من اللبرالية مفهوماً نسبيا، أو أنها مفردة أكثر منها مصطلحاً سياسياً أو فكرياً محددا مثل العلمانية أو الحداثة أو الديموقراطية.. الخ. أو يمكن القول أن اللبرالية مصطلح مرن مطاط يفهم حسب سياقه الظرفي سياسياً واجتماعياً واقتصاديا.
وقد يرتبط مفهوم اللبرالية لدى خصومها بأنها دعوة للتحرر المطلق والفوضى، كما أشرت، ولكن لا أحد يقول أن هناك حرية مطلقة، بل كثير من المفكرين اللبراليين، لا يؤمن بوجود المطلق من أساسه ومنه الحرية. وقد نصت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة (1948) على أن (لكل شخص الحق في حرية التفكير والدين والضمير.. وحرية الإعراب عنه بالتعليم والممارسة.. ) ونصت المادة 19 على : (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير)؛ كما أوضحت المادة 29: (أنه لا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق والواجبات ممارسة تتناقض مع أغراض ومبادئ الأمم المتحدة). ومن البنود الأولى في لائحة حقوق الإنسان الدولية أن كل فرد حر وأن حريته تنتهي عندما تتجاوز حرية الآخرين، أي أنها حرية مقيدة بعدم تجاوز أو الاعتداء على حقوق أو حرية الآخرين.. فهي حرية مسؤولة أمام القانون. وهذا له تفسير متفاوت لدى الشعوب حسب تطورها.. في بريطانيا وأمريكا يمنع الفرد من الظهور عارياً، لأن ذلك اعتداء على حرية الآخرين أو خدش لحيائهم أو تشويش على طريقة تربيتهم لأبنائهم، بينما في السويد يتسامح القانون في ذلك.. في بريطانيا من حق الأفراد الكتابة والتصريح والتنظيم السياسي بشكل شبه مطلق، مثلا يمكنهم الدفاع الفكري عن الإرهابيين وعن النازية.. في فرنسا وألمانيا وأمريكا يمنع ذلك، وقد يجرم أي تنظيم نازي حتى وإن كان سياسياً وفكرياً صرفا.
إلا أن ذلك لا يعني أنه لا توجد حرية في كثير من الدول المتقدمة، بل هي موجودة بالمعنى النسبي للكلمة.. وفي كثير من الدول الداعية للبرالية قد يحدث تجاوزات سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها لمفهوم اللبرالية والحرية عموماً.. وهنا يتحجج بعض العرب بأنه لا توجد حرية، مما يعني بزعمهم أن الحرية مجرد وهم وزيف غربي.. هذا في تقديري تحليل بالكلمات وعبرها ولعب بها؛ لأن المحك الفيصل هنا هو واقع الحال وليس منطق الألفاظ.. غاية القول أن اللبرالية تعني التحرر أو النزوع إلى الحرية المطلقة، وهي مفهوم عام ونسبي ومرن، لأن هذا المفهوم يتفاوت من مجتمع لآخر ومن مجال حياتي لآخر ومن مرحلة حضارية لأخرى، ولتحديد هذا المفهوم ينبغي مراعاة السياق الموضوعي الذي يطرح من خلاله، ولا يمكن تصنيف اللبرالي وتحديد اللبرالية عبر تعريف ثابت جامد يعمم على كل الحالات.
منقول